التنوير المتطرف ليس حلاً للتطرف أو طريقاً للحداثة!

التنوير المتطرف ليس حلاً للتطرف أو طريقاً للحداثة!

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


لا تزال حداثتنا العربية مأزومة، رغم مرور مائتي عام تقريباً على قيامها، رغم ما توالى من أجلها من جهود فكرية ومدنية مختلفة، ورغم اتساع وانتشار أشكال التحديث وجدالات الحداثة الفكرية والأدبية والفنية، إلا أنه رغم كل ذلك، تظل كما وصفها المفكر المغربي الراحل حداثة مظهرية وسلفية وتقليدية بنيوية، سواء على مستوى الوعي الذي تخترقه التطرف والعنف والكراهية والتمييز من آنٍ لآخر أو على مستوى الممارسة، الفردي والمؤسساتي والعلاقاتي والتمكين لحق الاختلاف وواجب الاعتراف المتبادل بين التنوعات المختلفة.
ولكن هل التنوير نهر ينساب أم سيل يبلغ زباه ويهدم كل ما هو قائم وموجود، وهل يمكن أن يتحول التنوير لأصولية منغلقة، تعادي كل ما هو دين وكل ما هو تاريخ وكل ما هو ماض أو تراث، وتبحث وفقط عن شاردات الروايات لتشويه أو الحكم الخطأ بتشويه ما تقدسه الجماعة؟ أم أنه دعوة حرة لاعتبار التاريخ في الوعي والوعي في التاريخ وفق منهج الوعي التاريخي الذي يدرك سياقات كل عصر واختلاف العصور السابقة عن عصرنا وعصرنا عنها دون تشويه ودون تقديس ودون تدنيس..
ربما يجب التفريق في معركة التنوير بين مواجهة ومجابهة الأصوليات المتطرفة وتوظيف الإسلام سياسياً أو عنفياً وبين مواجهة الدين نفسه والتفريق بين معاداة التطرف الديني الذي يسعى لتنميط الجميع في سياقه وممارساته وبين معاداة الدين نفسه؟ ..
نعم هناك الآن ما يمكن أن نصفه بالتنوير متطرف يصدم ويطير دون أن يبني وينير، كما أن هناك ادعاء للتنوير حين يختزل في موقف واحد وهو معاداة الدين والمقدسات والتاريخ ومكونات الهوية العربية والإسلامية التي يعتز بها أهلها من شخوص ورموز ومقدسات؟ ..
أصوات شاردة وفردية في الغالب تركز جهودها الآن على التقاط ما يشوه التاريخ والماضي العربي والإٍسلامي فقط، فتريد أن تقطع من صفحات كتابه جل الأسماء التي خلدها وذكرها، من بعض الصحابة اعتماداً على روايات الصراع الطائفي أو أسماء أخرى كثيرة بعدهم، من حكام وقادة وملوك ومصلحون، تمتد المعركة من الهجوم والاتهام والتشويه لأسماء كصلاح الدين الأيوبي وصولا لأمثال محمد الفاتح والخلفاء العثمانيين والمماليك؟ باتهامات فكرية وأخلاقية وسلوكية وردت في شوارد روايات الخصوم، قد يكونون منها براء عند التحقيق..
اختزل البعض من هؤلاء المعاصرين في الهجوم على القرآن أحيانا اعتمادا على الأبحاث التاريخية في الإسلام المبكر التي لا تورث يقينا... رغم أنها تظل مجالا علميا ونظرية مطروحة لا يمكن الحسم بها..
واختزله بعض آخر في الهجوم على البخاري وكتب السنة وكأن البخاري الذي أكد في مقدمة صحيحه أنه ليس إلا جامعاً سعى لجمع الصحاح من الأحاديث، كما طلب منه شيخه إسحاق بن راهوية، والرجل ليس إلا جامعاً ومحققاً للروايات وفق منهجه المدقق، وفي الصحيح ليس فقيهاً ولكن يورد ما رأى صحته فقط متجنباً ما شك فيه..
وهنا ينطرح سؤال: هل التنوير الراهن كما تمثله بعض هذه الأصوات ذبح للتراث أو إعدام للتاريخ والهوية؟ وهل تختزل كل قضايا العرب الراهنة في الهجوم على وجدانهم والمعتبر عندهم من تاريخهم وتراثهم فقط أم أن هذه النظرية الاختزالية والعدمية للتراث والتاريخ تخالف كل ما سبقها من موجات التنوير والإصلاح وفكر النهضة العربي في مراحله السابقة، التي طرح فيها الكثير من القضايا وصنع الكثير من المنجزات من تمكينه للدساتير وفكرة الأوطان إلى فكرة المواطنة ورفض التمييز ونجاحه الكبير في قضايا كالمرأة وغيرها من الفئات وكذلك اشتباكه العقلاني والفكري مع التراث دون ذبح له كما رأينا في جهود كثيرة من اكتشاف محمد عبده المبكر لكتابات ابن خلدون واهتماماته بتراث المعتزلة والإمامية، إلى دعوة خير الدين التونسي للدساتير والطهطاوي للتنظيمات العمومية والمؤسسات ودعوة طه حسين للتعليم وتحديثه والتمكين لمنهج ونسق علمي في النقد والتناول وليس فقط شاردات وفضائح تتعمد العداء والكراهية وتضاد هوية المجتمع بالكلية دون تحقيق.
لم يكن السابقون من مفكري نهضتنا في العصر الحديث منفصلين أو معادين لتراثهم أو تاريخهم، مع عدمية التراث وذبح التاريخ، بل حاول بعضهم حمل حداثتهم على حوامل منهما، عبر التمكين للعقل والحرية والمساواة، وحاولوا اكتشفوا جوانب الأنسنة فيه من إحياء التراث العقلي والكلامي الإسلامي، إلى التراث الصوفي والأدبي والفقهي المقاصدي، إلى استيعاب الاختلافات في تاريخنا وتفسيراتها، وهو تراث واسع وتاريخ جدلي كبير مثل قرونا من الزمان وفضاءات في الجغرافيا والمكان!
ربما خدعت السوشيال ميديا دعاة التنوير المتطرف فكل شاردة يطرحونها في نقد الدين أو بعض صفحات التاريخ، تطير بها منصاتها، ويشاهدها معارضوها ومؤيدوها، ولكنه تنوير سجالي لا يبنى عليه شئ ولا يرتقي درجة في سلم حداثتنا وواقعنا المأزوم، وينفصل عن الواقع والراهن كما ينفصل عن التاريخ، ولا يصلح أيا منهم، بل قد يزيد التطرف تطرفا ولا يزيد التنوير العام، الاجتماعي والسياسي والتعليمي، شيئا، لأنه مشغول بالماضي فقط وليس مشغولا بالمستقبل..
هذا التنوير المتطرف يركبه بالخصوص بعض المتحولين من أصحاب التجارب المتطرفة في الاتجاه الآخر، سواء في طفولتهم أو صباهم، وكما كانت ذهنياتهم متطرفة في مراهقتهم الأولى ظلت مراهقتهم في تطرفهم الراهن والأخير، وهي سمة للتحولات الأيديولوجية سبق أن أشرت إليها في كتابي" الحنين الى السماء: التحولات الأيديولوجية في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين" المنشور في مركز الحضارة في بيروت سنة 2010، فمن أتى من أيديولوجيا انغلاقية إلى اتجاه آخر ظل على انغلاقيته وصلابته في الاتجاه الجديد..
كما نرفض التدين المتطرف الذي يريد تنميط حياة الأخرين والوصاية عليهم، نرفض ونتحفظ التنوير المتطرف الذي يلح ويصر على تنميط الآخرين كذلك وتشويه الهوية العامة، والأخطر الصدام العنيف مع الهوية التي يريد إصلاحها أو تنويرها، عبر ذبح التراث والتاريخ وتشويههم فقط..
نريد تنويرا مشغولا بالحاضر والمستقبل وليس تنوير مسكونا بمعارك الماضي وصليل سيوف معاركه وترهات وشوارد الخصومة فيه، نريد تنويرا يبني المدارس ويحسن مستوى التعليم والحياة ويمارس النقد العقلي لكل شيء وليس فقط يقتطف من هنا وهناك شاردة يطير بها في منصات السوشيال ميديا.